الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي | التخبّط وطابور الانتظار (3/5)

 

تستكمل هذه المقالة البحث في واقع البنى المؤسّساتيّة العلاجيّة الفلسطينيّة، استكمالًا لسلسلة المقالات الّتي تتناول واقع النساء المصابات بسرطان الثدي استنادًا إلى كتاب «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الصامتة» (2021).

لا يمكن قراءة الطبّ بمعزل عن السياسة في فلسطين، فالوضع الطبّيّ في فلسطين وارتباطه بالسياسة يستدعيان فهمًا مغايرًا للفعل الاجتماعيّ عنه في سياقات أخرى طبيعيّة[1]. تتطرّق هذه المادّة إلى ذلك بالبناء على الوصفة النيوليبراليّة، وذلك في أعقاب نشوء النظام السياسيّ الفلسطينيّ، ثمّ تحاول أن تحلّل كيف تمظهر ذلك في حياة النساء عند محاولتهنّ الحصول على حقّهنّ في الشفاء.

 


 

الطبّ بين بيروقراطيّة حكوميّة وخصخصة رأسماليّة

لقد ارتبطت فلسفة نشوء الدولة، بنشوء مفاهيم من قبيل ’السلام مقابل الأمن‘، ’السلام الاقتصاديّ‘، ’مبادئ السوق الحرّ‘، و’سيادة القانون‘...إلخ. لكنّي هنا  لا أهدف إلى نقاش هذه الفلسفة وتفكيكها، بقدر ما أحاول تفكيك الدور الّذي أدّته هذه الفلسفة في منظومة الخدمات الّتي تقدّمها منظومة الصحّة الفلسطينيّة، من خلال النساء المصابات بسرطان الثدي. وذلك في سياق ’لبرلة‘ الأراضي الفلسطينيّة.

لقد  كانت عمليّة المأسّسة السريعة الّتي رافقت بناء هذه الفضاءات الطبّيّة من أهمّ التحوّلات الّتي حدثت في منظومة الصحّة في فلسطين. فبعد سنوات طويلة من التهميش والإهمال والإغلاق الّذي تعرّضت له الأطر الطبّيّة الفلسطينيّة التطوّعيّة الّتي انتشرت بشكل أفقيّ، وتنقّلت ما بين القرى والمخيّمات والمدن الفلسطينيّة[2]، جاءت عمليّة المأسسة السريعة لاختزال هذه الممارسات الطبّيّة بشكل أفقيّ،  أي في أبنية مادّيّة ، أخذت تتّسع بها التراتبيّات الوظيفيّة، وتتكرّس من خلالها اللوائح التنظيميّة. ذلك ما أنشأ بدوره  جمودًا وظيفيًّا في العمل على حساب روح العمل الحقيقيّة، أي على حساب  الإنسان نفسه، والّذي تحوّل فيه جسده الجمعيّ - أي جسد المريض وجسد الطبيب - من خطاب يرتكز على أنّ كليهما مهدّد بالإبادة ضمن مشروع استعماريّ قائم على الإزالة والمحو، إلى خطاب يرتكز على جسد المريض بوصفه ,مادّة‘ أو ’شيء‘؛ فكان ثمّة الطبيب الّذي يمتلك مهارات علميّة مكتسبة ضمن لوائح طبّيّة جامدة في ما يتمثّل أمامه الجسد المريض كحيّز مرئيّ لتطبيق هذه المهارات المكتسبة، فانفصل بذلك الجسد عن الجسد، وتحوّلت العلاقة من كونها علاقة تتشكّل ضمن جسد جماعيّ مهدّد بالإبادة اليوميّة السريعة والبطيئة، إلى أجساد فردانيّة يُعمل بها، وأجساد ضمن بنية مادّيّة، هرميّة، وظيفيّة.

جاءت عمليّة المأسسة السريعة لاختزال الممارسات الطبّيّة بشكل أفقيّ،  أي في أبنية مادّيّة ، أخذت تتّسع بها التراتبيّات الوظيفيّة، وتتكرّس من خلالها اللوائح التنظيميّة. ذلك ما أنشأ بدوره  جمودًا وظيفيًّا على حساب روح العمل... أي على حساب  الإنسان نفسه

من خلال المقابلات الّتي أجريتها مع النساء المصابات بسرطان الثدي، ظهر لي كيف ركّزت هذه الفضاءات الممأسّسة في عملها على الرعاية الصحّيّة الأوّليّة، في ما لم تستطع تطوير منظومتها الطبّيّة لتقديم خدمات الرعاية الثانويّة والثالثة مثل الأورام الخبيثة وأمراض الدم، وبعض جراحات الأعصاب الدقيقة، وجراحات القلب والأوعية الدمويّة. أسّس ذلك وأنتج إشكاليّتين واجهها القطاع الصحّيّ الفلسطينيّ، أوّلها شراء خدمة ’التحويلات الطبّيّة‘ الّتي استنزفت ملايين الأموال الّتي كان من الممكن أن توظّف في تطوير المنظومة الصحّيّة. ثانيًا عمليّة خصخصة الصحّة، إذ أخذ هذا القطاع يمتدّ وتتّسع قاعدته إلى أن أضحى جزءًا أساسيًّا في توجّه الفلسطينيّين نحو هذا الفضاء المادّيّ المخصخص للحصول على خدمات طبّيّة لقاء دفع أجر مادّيّ، ترتّب على ذلك  بروز قيمة رأس المال كقيمة محوريّة أساسيّة في حصول الفرد على الخدمة الطبّيّة اللائقة، فمن يملك المال يحصل على خدمة جيّدة، ومن لا يملك المال يقف قبالة الموت.

في ذات السياق لا يمكن أن نفهم منظومة الصحّة الفلسطينيّة بمعزل عن المانحين الدوليّين وعالم التمويل، فعلى الرغم من نشوء فلسفة الأولويّات الّتي تركّزت حول خطابات السلام مقابل الأمن والسلام الاقتصاديّ، سيادة القانون، المال العام، الحكم الرشيد، المساءلة والحوكمة والشفافيّة، إلّا أنّ التدخّلات القليلة الّتي أحدثها عالم المانحين في الأطر الصحّيّة لا يمكن فهمها بمعزل عن السياسة. لقد أشار حنفي وليندا طبر إلى أنّ «الوكالة الأمريكيّة» أنفقت مبالغ كبيرة على خدمة طبّيّة واحدة وهي تنظيم الأسرة، ممّا جعل أحد العاملين في القطاع الطبّيّ يعلّق متهكّمًا في مقابلة مع الباحثيْن: "يبدو أنّ ثمّة طريقتان في ضبط النموّ السكّانيّ في فلسطين، واحدة من خلال طائرات الأباتشي الحربيّة، والثانية من خلال برامج تنظيم الأسرة"[3]، وهو ما يعني بالضرورة النظر إلى ما خلف هذه التدخّلات باعتبارها تدخّلالت سياسيّة تتجاوز إطار المفهوم الصحّيّ والمصطلحات الطبّيّة إلى كونها قضايا مرتبطة بالهندسة الاجتماعيّة على الأرض، في واقع استعماريّ يعمل على خلق تفوّق ديمغرافيّ له، ويقلقه تزايد أعداد السكّان الفلسطينيّين.

أمّا المؤسّسات الدوليّة الّتي تعنى بالصحّة وعلى رأسها «منظّمة الصحّة العالميّة»، فقد أخذت تعمل على تقييم الوضع الصحّيّ في الأراضي الفلسطينيّة، بعيدًا عن مساءلة البنى العالميّة والاستعماريّة وشبكة المصالح الّتي تحكمها، ودورها في صنع وتشكيل هذا الاضطهاد، وهذا يعني أنّه قد جرى اختزال محدّدات المرض في تمظهرات قشوريّة يجري توصيفها عبر إصدار تقارير سنويّة عن الأحوال الصحّيّة[4]، اختزلت إشكاليّات الصحّة في فلسطين بسلوكيّات كالتدريب والإعداد وزيادة الجودة، بعيدًا عن مساءلة البنى الاستعماريّة الّتي تلاحق هذه الأطر الطبّيّة بالاستهداف العسكريّ والسكّان وبالأسلحة المحرّمة، وكذلك اختزلتها فلسفة المانحين الّتي تصوغ الأولويّات وتحدّد شروط تمويل القطاعات الصحّية.

إنّ الدور الّذي يجب أن تؤدّيه هذه الأطر الطبّيّة العالميّة، كـ «منظّمة الصحّة» يجب أن يكون دور مساءلة لهذه البنى ومراقبتها، والعمل على فحص هياكل العنف الّذي تمارسه هذه البنى على الأجساد، والامتناع عن اختزال دورها بوصفات لتنمية القطاع الصحّيّ متجاوزة كلّ هذا البنى والمؤثّرات لتتعامل مع الفلسطينيّين بوصفهم بحاجة إلى وصفات من باب ’التوعية حول ما يجب أن يفعلوه‘. قد لا يكون دور «منظّمة الصحّة العالميّة» معالجة تلك الإشكاليّات، لكن انطلاقًا من مبادئها فإنّ مهمّتها تكمن في إثارة تلك التساؤلات ليس فقط من باب المطالبة بالتحقيق أو الإنجاز، بل أيضًا انطلاقًا من القيم الّتي تدعو إليها، فهل يمكن ذلك في ظلّ الرأسماليّة الخيريّة؟

لقد عكست سرديّات النساء المشاركات في الدراسة ما أسمّيه في هذا القسم ’تمظهرات أزمة القطاع الصحّيّ‘. إنّ الهدف من تفكيك ذلك يأتي لنقاش هذه التمظهرات وتفكيك عنفها الممارس على أجساد المشاركات في الدراسة أوّلًا، وثانيًا توسيع النقاش حولها في إطار مراجعتها على الأرض، وثالثًا كون هذه التمظهرات تأتي من قبل هؤلاء النساء اللّواتي عايشن التجربة، وهنّ الأقدر على رواية تفاصيلها الرئيسيّة والثانويّة، اختناقاتها وآلامها، وليس من خلال الآخر ’الخبير‘. وذلك ما أناقشه  استنادًا إلى فرضيّة عدم وجود بروتكول طبّيّ معتمد في فلسطين، وأزمة الثقة وتجلّيّاتها.

 

غياب بروتكول طبّيّ معتمد في فلسطين

يتبيّن لنا من خلال روايات النساء المشاركات في الدراسة عدم وجود بروتكول معتمد في فلسطين لسرطان الثدي. فقد أظهرت الروايات أنّ هؤلاء النساء قد اكتشفن وجود ’الكتلة‘ بمحض الصدفة، من خلال الفحص الذاتيّ والشكوك الّتي راودتهنّ، كما ظهر أنّ الكتلة كانت عرضة للتخبّط في معرفة  ماهيّتها، ناهيك عن ضعف العمل بنظام الفريق الطبّيّ، وقد عكست روايات المشاركات مجموع ذلك. 

 

الصدفة ’حظوظ بالحياة‘

يظهر جليًّا من خلال رواية المشاركات في الدراسة أنّ اكتشافهنّ للإصابة جاء بمحض الصدفة، وليس من خلال معايير تعتمدها وزارة الصحّة وتطبّقها على كافّة النساء في فلسطين للكشف المبكّر. ففي الجانب الأوّل جاء الاكتشاف من خلال الفحص الذاتيّ، إذ تتحدّث المشاركة صفيّة ’ر‘ الّتي أصيبت بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة، قائلة:

"في العام 2013 كان عمري 40 عامًا، أجريت فحصًا ذاتيًّا، فشعرت صدفة بكتلة في الثدي، توجّهت إلى «مركز دنيا لأورام السرطان»، وأُجْرِيَتْ لي فحوصات، وتبيّنت إصابتي بالسرطان"[5].

أمّا الجانب الثالث فتتحدّث عنه المشاركة عايدة ’ع‘ الّتي أصيبت بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة، عن حملات الكشف المبكّر، وهي في العادة تكون عبر إعلان محدّد لفترة زمنيّة، تتوجّه من خلاله النساء لإجراء فحص للثدي. كانت إحدى هذه الحملات حملة للكشف المبكّر عن سرطان الثدي نفّذتها العيادات التابعة لـ «الأنروا» في منطقة الضفّة الغربيّة. تقول المشاركة إنّه لولا هذه الحملة لكانت قد توفّيت، إذ لم تشكّ للحظة بأنّها تعاني من إصابة بسرطان الثدي، تقول:

في بعض الحالات الّتي تكتشفت المرأة وجود كتلة لديها، تكون عرضة لتعدّد آراء الأطبّاء في سبب هذه الكتلة دون أن يكون هناك معايير متّفق عليها طبّيًّا لكيفيّة التعامل مع وجود كتلة في الثدي...

"كنت في زيارة إلى عيادة الوكالة في مخيّم الأمعري لإحضار أدوية لي، وفي إحدى المرّات ذهبت لاستلام الدواء، لكنّ الدواء الّذي جئت لأجله لم يكن موجودًا، فخرجت من العيادة، وأثناء خروجي رأيت أمام العيادة سيّارة متنقّلة لفحص الثدي، فذهبت إلى هذه العيادة المتنقّلة، وظهر أنّ هناك كتلتين... أخبرني الطبيب بعد ذلك بأنّي أعاني من أشدّ أنواع السرطان وأنّني مصابة منذ ثلاثة شهور، وقال لي إنّه لو استمرّ بضع شهور أخرى لكنت في القبر الآن"[6].

تبرز مثل هذه المبادرات أو الحملات في مجتمع ما عندما يُخْتَزَلُ دور الدولة في مؤسّساتها ’الطبّيّة‘، ويغدو دور هذه المؤسّسات مقتصرًا على تقديم العلاج، وليس على مبدأ الكشف المبكّر. أوضحت نفوز مسلماني كيف أنّ مرض سرطان الثدي لم يعد مرضًا قاتلًا، وأنّ تشخيصه مبكرًا يعني أنّ ثمّة احتماليّة كبيرة للشفاء منه، وذلك يعني أنّ ثمّة إشكاليّة كبيرة في تشخيص المرض؛ فقد تجد المرأة نفسها وقد انتشر المرض في جسدها قبل أن تكتشف مرضها، وحتّى في بعض الحالات الّتي تكتشفت المرأة وجود كتلة لديها، تكون عرضة لتعدّد آراء الأطبّاء في سبب هذه الكتلة دون أن يكون هناك معايير متّفق عليها طبّيًّا لكيفيّة التعامل مع وجود كتلة في الثدي.

 

التخبّط في التشخيص

حدث أنّ بعض السيّدات توجّهن إلى أطبّاء وطبيبات بعد شكوك لديهنّ بالإصابة بسرطان الثدي، في ما أُبْلِغنَ أنّه "لا داعٍ إلى الخوف، وأنّ بإمكانهنّ العودة إلى البيت." تروي مسلماني كيف توجّهت إحدى السيّدات من قرية تابعة لمحافظة رام الله،  لطبيبة البلدة بعد أن شعرت بوجود كتلة لديها فأخبرتها الطبيبة أنّ هذه الكتلة هي نتيجة لتغيّرات هرمونيّة، وأن تطمئنّ، فكان ذلك سببًا في انتشار المرض في جسدها ثمّ وفاتها لاحقًا. تتحدث د. مسلماني عن ذلك قائلة:

"مرّت عليّ حالات نساء كان المرض متفشٍّ لديهنّ. ما يزعجني أنّ السبب ليس تقصير منهنّ، وإنّما من الطاقم الطبّيّ. إحدى النساء كان عمرها 37 عامًا، أخبرتني أنّها ذهبت إلى طبيبة ما، وأعلمتها بوجود كتلة، فأخبرتها الطبيبة أنّها صغيرة في العمر، ومن غير الجّيد إجراء فحص الماموغرام. بعد ذلك، حملت السيّدة والهرمونات تغيّرت، وكبرت الكتلة، فعادت هذه السيّدة لذات الطبيبة، فأخبرتها أنّ هذه الكتلة بسبب الحمل. مرّت سنتين ونصف... عندما وصلت إلى «مركز دنيا» كان المرض قد انتشر بكلّ جسدها، عاشت ستّ أو سبع شهور، وتوفّيت بعدها.... أثّرت هذه المرأة فيّ لأنّها ذهبت إلى الأطباء لكنّهم لم يشخّصوا الكتلة بالطريقة الصحيحة. يجب أن يكون هناك بروتكولات وطنيّة، وقانون بإلزام الأطبّاء باتّباع هذه البروتوكلات. كلّ كتلة يجب أن تشخّص بالطريقة الصحيحة حسب بروتكول وطنيّ معتمد"[7].

إنّ الفتاوى هذه في فحص الكتلة وطبيعتها تكلّف كثيرًا من النساء حياتهنّ، في ظلّ غياب بروتكول من شأنه وضع معايير للتعامل مع أيّ كتلة في الثدي. يأتي هذا مع أخذ السياق بعين الاعتبار، فإذا كان يجري فحص الثدي، حسب نفوز مسلماني، أنّ لكلّ سيّدة في أوروبّا بعد سنّ الخمسين فحصًا واحدًا في السنة، فإنّ نسب الإصابة بسرطان الثدي في فلسطين ستتركز ما بين عمر 40-50 عامًا.

 

إشكاليّة العلاج

تحدّث د. خالد شرف - طبيب متخصّص في معالجة أورام الثدي - عن فحوى الإشكاليّة في ذلك بالقول:

"مثلما هو موجود في فلسطين، إذا صدف وذهبت المرأة لطبيب الأورام أوّلًا، من الممكن أن يعطيها علاج كيماويّ، وإذا ذهبت إلى جرّاح، من الممكن أن يجري لها عمليّة جراحيّة لاستئصال الورم، ويطلب من طبيب الأورام أن يكمل علاجها... وهذا خطأ، مرض سرطان الثدي يجب أن يقرّر فيه طاقم طبّي، حتّى يكون ممكنًا وضع خطّة علاج صحيحة لهذه المريضة"[8].

تتطرّق نفوز مسلماني - طبيبة ومديرة «مركز دنيا لأورام السرطان»، قائلة:

"يجب أن يتشارك في علاج سرطان الثدي أكثر من طبيب، فريق كامل، طبيب الأشعّة هو من يشخّص، ومن ثمّ يعرف مكان الكتلة، طبيب الأورام يكتب العلاج الكيماوي، الجرّاح يستأصل الكتلة، وطبيب الأنسجة يحدّد نوع الأنسجة. يجب أن يجتمع هؤلاء معًا ضمن فريق، وأن يضعوا خطّة العلاج، هذا هو التكامل، ويأتي بعد ذلك كلّه العلاج الطبيعيّ والدعم النفسيّ"[9].

إنّ من شأن وجود بروتكول فلسطينيّ معتمد أن يضع آليّات ومعايير تشخيص وعلاج ومتابعة النساء الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي، وألّا يُتْرَكْنَ عرضة للتخبّط وصدفة الاكتشاف. إنّ عدم اعتماد هذا البروتكول نظريًّا وانعكاسه ممارسة على أرض الواقع أدّى إلى إشكاليّة أخرى مهمّة وهي نشوء أزمة ثقة وتردّد عند النساء المصابات بسرطان الثدي  من ’الخدمات‘ الّتي يقدّمها القطاع الحكوميّ لهنّ.

 

أزمة الثقة وتجلّياتها

من خلال روايات المشاركات في الدراسة تبيّن أنّ ثمّة أزمة ثقة نشأت، كما بينتها رواية المشاركات في الدراسة، نتيجة مجموعة من العوامل، أبرزها عدم وجود طبيب أورام متخصّص للتعامل مع هذه الحالات حتّى بداية العام 2020، والنقص في عدد الكوادر الطبّيّة كأطبّاء الأورام، وأطبّاء الأشعّة، والجرّاحين... إلخ، إضافة إلى الإجراءات الطويلة المتشابكة المرتبطة بأماكن متباعدة؛ فالطبيب في بناية، والمختبر في بناية أخرى، والأشعّة في بناية ثالثة، في ما يُطْلَبُ من ذات المريضة التنقّل بين هذه الأبنية جميعها. ترتّب على ذلك كلّه نشوء إشكاليّات أدّت إلى بروز أزمة الثقة هذه، وتمثّلت بشكل أساس في الطابور ’الدور‘، وفضاء العلاج.

 

في انتظار العلاج: الطابور

لقد أضحى الطابور في مخيّلة النساء الفلسطينيّات جزءًا مرتبطًا وملاصقًا للحصول على علاج في المستشفيات والمراكز الحكوميّة، إذ يتحتّم على النساء المصابات أثناء محاولتهنّ زيارة طبيب الأورام في المستشفيات الحكوميّة، أن يقمن بالذهاب إلى المستشفى قبل موعد الزيارة الرسميّ لحجز دور لهنّ. قد يأتي هذا الدور بعد أسبوع أو أسبوعين، وبعد أن يُحَدَّدَ لها هذا الموعد تضطر إلى الذهاب صباحًا إلى المستشفى لحجز دور آخر لها بين ذات الأشخاص الّذين سبق أن حُجِزَ لهنّ موعدًا في اليوم نفسه.

تضطرّ النساء بسبب هذا النقص في عدد أطبّاء الأورام والأشعّة، إلى الانتظار مدّة تقارب الأسبوعين للحصول على موعد لزيارة طبيب الأورام أو إجراء صور أشعّة، ومدّة تقارب أسبوعين آخرين للحصول على تقرير لصورة الأشعّة. مرح عمرو، أخصّائيّة اجتماعيّة - مسؤولة الدعم النفسيّ في «مركز دنيا»، تتحدّث عن هذا الانتظار الطويل بالقول:

"عندما تشخّص المرأة بالإصابة بالسرطان من خلال الخزعة في المركز، فإنّها تذهب إلى المشافي الحكوميّة حتّى تبدأ العلاج هناك. تنتظر في البداية ما يقارب الأسبوعين حتّى تستطيع الحصول على موعد للخضوع لصورة طبقيّة، ثمّ تضطر لتأخذ هذه الصورة إلى طبيب أشعّة خارج المستشفى لقراءتها وهي عمليّة مكلفة تقارب المائة دولار، أو أن تنتظر ما يقارب أسبوعين آخرين أو أكثر حتّى تتجمّع مجموعة من الصور لدى المستشفى ويأتي طبيب لقراءتها"[10].

تنظر المشاركة ميسر ’ح‘، الّتي أصيبت بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة، إلى الطابور بوصه  أصبح شيئًا متأصّلًا في مخيّلة المرضى للحصول على على العلاج. فلا يمكن تصوّر العلاج بدون الوقوف في الطابور الطويل، والانتظار لساعات... إلخ. إنّ طبيعة هذه الخدمة في القطاع الحكوميّ تدفع بالبعض إلى البحث عن بديلها في القطاع الخاصّ، تقول:

"من تجارب الناس مع طبيب الحكومة أنّ هناك ملل بسبب كثرة المراجعين، والعشوائيّة الكبيرة، والطبيب يرى في اليوم الواحد حالات كثيرة من المرضى، ومع هذا العدد لا يتوفّر لديه الوقت والطاقة بأن يشعر بالمريض... يختلف هذا في القطاع الخاصّ حيث هناك الاهتمام بالمريض، لأنّك تدفع ’كشفيّة‘ - أموال. وبسبب هذا الانتظار الطويل فقد ذهبت إلى القطاع الخاصّ وقمت بإجراء العمليّة على نفقتي الخاصّة، ودفعت مبلغًا ماليًّا كبيرًا"[11].

هنا تبرز طبيعة التحوّلات  الّتي احتوتها الصحّة زمن المأسسة. ولا تكمن أهمّيّتها من ناحية الجودة فقط – على أهمّيّتها، لكنّها تكمن أيضًا من ناحية المساواة والحقّ في الخدمة لمن يملك ومن لا يملك. إذ انتشرت في ظلّ عمليّة المأسسة ثقافة الحصول على خدمة جيّدة لقاء مبلغ ماليّ، ولم  يظهر القطاع الخاصّ كفضاء مهمّ إلا بعد نشوء هذه المأسسة.

 

فضاءات العلاج: خاصّة وحكوميّة

 تطرّقت روايات المشاركات إلى الفضاء المرتبط بإجراءات العلاج من مرض السرطان، فطبيب الأورام في بناية، وطبيب الأشعّة في بناية أخرى، والصندوق في مكان مختلف، والمختبر في بناية مختلفة، والصيدليّة في مكان آخر، وهكذا، وفي كلّ مكان يضطررن إلى الانتظار. تتحدّث المشاركة فيحاء ’س‘ الّتي أصيبت بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة:

انتشرت في ظلّ عمليّة المأسسة ثقافة الحصول على خدمة جيّدة لقاء مبلغ ماليّ، ولم  يظهر القطاع الخاصّ كفضاء مهمّ إلا بعد نشوء هذه المأسسة...

"ذهبت صباحًا إلى مستشفى رام الله [مجمّع فلسطين الطبّيّ]، طلبوا منّي أن أسجّل، ثمّ طلبوا أن أذهب إلى الصندوق للدفع، ثمّ لأخذ عيّنة دم في المختبر، كلّ شيء يجب أن أفعله أنا، في «مستشفى الحسين» في الأردنّ أثناء علاجي الكيماوي، كان الطاقم يأتي إليّ في الغرفة ويقوم بعمل كلّ شيء، كان هناك شرح دائم لي، وتعاون وإسناد لي، حتّى اليوم يسألون عنّي باستمرار، طبيبتي تتواصل معي. في المستشفيات الحكوميّة، إذا لم تتابعي أنت بنفسك لا مجال لأحد أن يتابعَكِ"[12].

هكذا تحوّلت المريضة من جسد مصاب بالسرطان إلى رقم على لائحة انتظار طويلة، وتحوّل معها اهتمام الطبيب إلى المرض بصورته المباشرة، في ما تُرِكَ المريض لمتابعة تبعات العلاج الجسديّة والنفسيّة في القطاعات الخاصّة الأخرى، وذلك يعتمد على القدرة المادّيّة بالدرجة الأولى، والّتي يتحوّل فيها المريض من رقم إلى ’زبون‘. أنتج هذا بدوره إشكاليّة كبيرة لا تزال السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة عاجزة عن التعامل معها بصورة جذريّة وهي إشكاليّة التحويلات الطبّيّة، أو ’شراء الخدمة‘.

من خلال النقاش الوارد أعلاه أدّعي أنّه كان من الممكن للنظام السياسيّ أن يستعين بتجربة منظومة كوبا الصحّيّة بعد الثورة، إذ كانت الصحّة أحد أهمّ مطالب الثورة. لكنّ ما فعله النظام السياسيّ الجديد هو أنّه أخضع الصحّة لقوانين رأس المال، واختزل نفسه بتقديم خدمات طبّيّة دون توفير الحقّ في الرعاية الصحّيّة المتساوية للجميع، في الوقت الّذي اتّسعت فيه قاعدة القطاع الطبّيّ المخصخص وأضحى جزءًا مهمًّا من المخيال الجمعيّ عند البحث عن تشخيص وعلاج ’دقيق‘، وفي أغلب الأحيان يكون من يحصل على الخدمة ’الجيّدة‘ في القطاع الخاصّ الطبّيّ هو من يملك المال، ومن لا يملكه وبحاجة إلى علاج عالي التكلفة يتحتّم عليه الوقول في طابور الانتظار الطويل. هذه الحالة أنشأت نوعًا من الطبقيّة، وليست الطبقيّة بمفهوما المادّيّ – الغنيّ أو الفقير – كما يجري تصويرها في عديد المجتمعات، بل بقربها الطبقيّة الّتي تشير إلى مدى القرب أو البعد عن مراكز القوّة ما يحدّد القدرة على الحركة في الفضاءات الطبّيّة والتمكّن من الوصول إلى العلاج المناسب، فثمّة أولئك المقرّبون من النخبة الّتي أسّست لهذه البيروقراطبّيّة وساهمت في بنائها، وثمّة أولئك المُبعَدون الّذين يتحتّم عليه الوقوف في طابور الانتظار الطويل.

 


إحالات

[1] حنفي، ساري وليندا طبر. المانحون، والمنظّمات الدولية، والمنظّمات غير الحكوميّة المحلية: بروز النخبة الفلسطينيّة المعولمة (رام الله: معهد مواطن للديمقراطيّة وحقوق الإنسان، 2004).

[2] من المهمّ الإشارة هنا إلى أنّني لا أناقش جودة هذه الخدمات، بقدر ما أحاول لفت الانتباه إلى انتشارها الأفقيّ غير الممأسس.

[3] حنفي، ساري وليندا طبر. المانحون، والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية المحلية: بروز النخبة الفلسطينية المعولمة.

[4] انظر تقرير «الأحوال الصحّيّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة» بما فيها القدس الشرقيّة وفي الجولان السوريّ المحتلّ الصادر عن «منظّمة الصحّة العالميّة» (2018).

[5] صفية ’ر‘، أصيبت بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة. (رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021).

[6] عايدة ’ع‘، أصيبت بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة. (رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021).

[7] نفوز مسلّماني، مديرة «مركز دنيا لأورام السرطان». (رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021).

[8] خالد شرف، أخصّائيّ جراحة أورام الثدي في «مستشفى أوغستا فيكتوريا». (القدس، كانون الثاني (يناير) 2021).

[9] نفوز مسلّماني، مديرة «مركز دنيا لأورام السرطان». (رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021).

[10] مرح عمرو، أخصّائيّة اجتماعيّة - مسؤولة الدعم النفسيّ في «مركز دنيا». (رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021).

[11] ميسر ’ح‘، أصيبت بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة. (رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021).

[12] فيحاء ’س‘، أصيبت بسرطان الثدي، من الضفّة الغربيّة. (رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021).

 


 

نور بدر 

 

 

 

مرشّحة دكتوراه في «جامعة تونس» في «كلّيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة»، تعمل على أطروحة تتناول سوسيولوجيا الحكم العسكريّ الإسرائيليّ على الأجساد الفلسطينيّة ومقاومتها. صَدَر لها كتاب بعنوان: «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الصامتة» (2021).